الأم النرجسية

ليست كل المعاناة مرئية, فهناك جراح لا تنزف لكنها تقيم في أعماق النفس, تنمو بصمت و تتشكل في الطفولة في كنف بيتٍ يفترض أنه ملاذ للحنان لكنه يصبح ميداناً للإرتباك و الخذلان. في هذا البيت قد لا يكون العنف صراخاً أو ضرباً بل نظرة تسحق الروح أو حب مشروط لا يعطى إلا طاعةً و خضوعاً. أصعب ما يواجهه الإنسان في رحلة الحياة هو أن تكون المعاناة قادمة من أقرب الناس إليه من الأم, تلك التي يفترض أن تكون مصدر الأمان غير المشروط. عندما تكون الأم نرجسية, لا يرى الطفل نفسه ككائن مستقل يحب ذاته بل يتحول إلى مرآة وظيفتها الوحيدة عكس صورة الأم. إن الأم النرجسية لا تلد أبناء بل أدوات نفسية تستخدم لتلميع صورتها و التعويض عن نقصها الداخلي و بسط سيطرتها العاطفية. إن الطفل الذي يكبر تحت هذا النمط من التربية, غالباً ما يتعلم أن يرضي الآخرين على حساب نفسه و يكبت احتياجاته و يشعر بالذنب لمجرد أن يكون مختلفاً. بل و قد يحمل هذا الوجع في داخله حتى بعد أن يصبح راشداً و يؤسس عائلته الخاصة, حيث تعاود الجراح القديمة الظهور في شكل صعوبات في العلاقات أواضطرابات في الثقة بالنفس أو حتى الطريقة التي يربي بها أبناءه. تعد النرجسية اضطراباً في الشخصية مصنفاً ضمن اضطرابات الشخصية في الدليل التشخيصي تحت مسمى اضطراب الشخصية النرجسية DSM-5 الإحصائي للإضطرابات النفسية

و بينما يركز كثير من الأدب على النرجسية في العلاقات العاطفية أو المهنية, هناك اهتمام متزايد بدراسة أثر الآباء النرجسيين, خصوصاً الأمهات على أطفالهن. من أهم ما يميز الأم النرجسية هو التلاعب العاطفي و هو استخدام العواطف كأداة للسيطرة و التحكم, حيث تستخدم مشاعر مثل الذنب, الخوف, أو الحب كوسيلة لدفع الآخر (الطفل) إلى التصرف بما يرضي الطرف المتلاعب (الأم), حتى و لو كان ذلك على حساب نفسه. تهدد الأم النرجسية بشكل مباشر أو غير مباشر بعواقب عاطفية إذا لم يتصرف الطفل كما تريد (الإبتزاز العاطفي), “إذا كنت تحبني, ستفعل ما أطلبه” بعد كل ما فعلته لأجلك, هكذا تعاملني؟” لو تركتني و ذهبت سأموت من الحزن” يشعر الإبن أو الإبنة بأنه مسؤول عن مشاعر الأم و Toxic Guilt يصاب بالذنب المرضي

إحدى أخطر الأدوات حين تشكك الأم النرجسية في الواقع أو في مشاعر الطفل مما يؤدي إلى اهتزاز الثقة بالنفس و العقل. “ أنت تبالغ, لم يحدث ذلك” أنت حساس جداً, ما قلته كان مزاحاً فقط” أنت تتخيل أشياء غير صحيحة”. يفقد الإبن الثقة بذاكرته و مشاعره و يبدأ الشك بنفسه. تلجأ الأم إلى إظهار الضعف و الظلم المستمر لتستجلب تعاطف الطفل و تضمن سيطرته. “ أنا الأم الوحيدة التي لا يهتم بها أبناؤها “ الناس لا يعرفون كم أعاني” أنتم دمرتم حياتي”. يشعر الطفل أنه سبب ألم الأم و يتحول إلى منقذ دائم لها على حساب نفسه. تمنح الأم الحب أو القبول فقط إذا تصرف الطفل وفقالما يرضيها. “ أنت رائع عندما تفعل كذا…….” أنا فخورة بك, لكن لو كنت أكثر طاعة, كنت سأحبك أكثر”. يتعلم الطفل أن قيمته مرتبطة برضا الآخرين مما يخلق شخصية مرضية للغير

تعاقب الأم الطفل بالصمت, التهميش أو التجاهل عند أي سلوك يخالف توقعاتها. تجاهل الحديث معه, إظهار خيبة أمل باردة, التصرف كأن الطفل غير موجود. يخشى الطفل الرفض و العزلة و يصبح أسيراً لرغبة دائمة في إرضائها لتجنب الهجر العاطفي. تقارن الطفل بآخرين بطريقة تؤلمه لتدفعه للشعور بالنقص و تحفزه للتصرف بما يرضيها. “ انظر لإبن خالتك, كم هو ناجح!” أخوك أفضل منك, لا يكلمني بهذه الطريقة”. ينشأ الطفل بشعور دائم بعدم الكفاءة مما يقود إلى الغيرة من الآخرين أو جلد الذات. الأم النرجسية ترى نفسها مركز الوجود و غالباً ما تتعامل مع الآخرين بمن فيهم أبناؤها كإمتداد لها و ليسوا كيانات مستقلة. تحاول الأم النرجسية السيطرة على حياة أبنائها في أدق تفاصيلها ليس من باب الحماية بل لضمان الولاء و التبعية لها. حب الأم النرجسية ليس بلا شروط فهو مرتبط بالسلوك الذي يرضيها فقط. لا تستطيع الأم النرجسية أن تفهم أو تشعر بمشاعر الآخرين إلا إن خدم ذلك صورتها الذاتية. تشعر الأم بالتهديد من نجاح أبنائها خاصةً إذا حازوا على إعجاب أو حب خارجي يفوق ما تمنحه هي. لا ترى الأم النرجسية في أبنائها إلا جوانب النقص و تستغل ذلك لإبقائهم تحت السيطرة. تظهر الأم النرجسية نفسها دائماً على أنها المضحية المظلومة التي لا تُقدر

تأثير النشأة تحت أم نرجسية على الأبناء

الأبناء معرضون للإصابة بإضطراب القلق العام, اضطراب الإكتئاب, اضطراب ما بعد الصدمة المركب, الشعور المزمن بعدم الكفاءة أو الذنب المرضي بالإضافة إلى اضطرابات الهوية و العلاقات, حيث يكبر الأبناء غالباً و هم غير متأكدين من أنفسهم, يعانون من ضعف في الحدود الشخصية و يجدون صعوبة في بناء علاقات صحية

إعادة إنتاج النمط

قد يكرر الأبناء في علاقاتهم مع شركائهم أو أبنائهم نفس ديناميكية السيطرة أو التبعية التي عاشوها ما لم يخضعوا لعلاج نفسي

حتى بعد الزواج و تكوين عائلة تستمر الأم النرجسية غالباً بمحاولات التدخل في الحياة الزوجية للأبناء, تقويض علاقة الإبن أو الإبنه بشريكه, استخدام الأحفاد كسلاح للتأثير أو الضغط

قد يعاني الأبناء من تضارب الولاء بين حماية أسرهم الجديدة و الخضوع للسيطرة الأبوية مما يسبب صراعاً داخلياً و أزمات زوجية متكررة

يشعر الطفل بعدم الأهمية و يفقد الإحساس بالقيمة الذاتية, يعاني من صعوبة في التعبير عن الذات دون شعور بالذنب أو الأنانية, ضعف القدرة على إتخاذ قرارات مستقلة, شعور دائم بالذنب عند التفكير في الإستقلال, الميل للتبعية في العلاقات أو العزلة لتجنب الصراع, يطور الطفل شخصية مزيفة لإرضاء الآخرين, عدم الثقة بأنهم محبوبين لذاتهم, الميل للبحث عن الحب عبر الأداء و الإنجاز فقط, ينكرون مشاعرهم الخاصة, يميلون لإرضاء الآخرين على حساب الذات, يعانون من صعوبة في تطوير الذكاء العاطفي و التعاطف الحقيقي, يعيشون في صراع داخلي بين الطموح و الولاء, الخوف من النجاح أو التمييز, الشعور بالخزي عند الفرح, شعور دائم بعدم الكفاءة, الخوف من ارتكاب الأخطاء, جلد الذات و المثالية القهرية, شعور مزمن بالذنب, الميل لإنكار احتياجاتهم الشخصية, الوقوع في علاقات قائمة على الشفقة و المنقذية

استراتيجيات التعامل مع الأم النرجسية

وضع حدود صارمة : حدود واضحة في الوقت, الخصوصية, و المعلومات الشخصية

العلاج النفسي : خصوصا العلاج السلوكي المعرفي أو علاج الصدمة يساعد في التعافي

في الحالات الشديدة no contact أو low contact التقليل من التفاعل : ما يدعى

بناء هوية مستقلة : من خلال العمل على تقدير الذات و التواصل مع أشخاص داعمين نفسيا

كيف يمكن مقاومة التلاعب؟ التعرف على الأنماط بوعي

القراءة و الوعي الذاتي يعدان أول خطوة للشفاء, بالإضافة إلى العلاج النفسي خصوصاً العلاج السلوكي المعرفي و علاج الصدمة, بناء حدود واضحة ( تعلم قول لا دون الشعور بالذنب), إعادة الإتصال بالمشاعر الأصلية ( تمييز ما هو شعور حقيقي مقابل ما زرعته الأم بالتلاعب), الدعم الإجتماعي و الآمن ( التحدث مع أشخاص مروا بنفس التجربة أو مجموعات دعم)

إلى كل من كبروا في بيوت كانت قلوبهم فيها وحدها التي تهتم, إلى من تعلموا أن الحب يمنح بشروط و أن الهدوء يسبق العاصفة, و أن الإبتسامة قد تخفي تهديداً, إلى من عاشوا طفولتهم و هم يحاولون جاهدين أن يكونوا أبناء صالحين علهم يرضون أماً لا ترضى أبداً أنت لست مجنوناً, أنت لست حساساً أكثر من اللزوم, أنت لم تتخيل الألم لقد كان حقيقياً. حين كانت أمك تقلل من شعورك أو تسخر من دمعتك أو تقارنك بالآخرين أو تزرع فيك شعوراً بالذنب لمجرد أنك أنت, لم تكن تلك تربية قاسية بل كانت تشويشاً عاطفياً دائماً يصعب شرحه لمن لم يختبره. قد تكون اليوم بالغاً, ناجحاً, أو حتى والداً لطفلٍ تحاول أن تحسن إليه ما لم يحسن إليك… لكنك تحمل في داخلك طفلاً صغيراً, مرهقاً من محاولة الفوز بحب مستحيل. أنت لست وحدك وهناك الآلاف مثلك من يسيرون و هم يحملون أثقالاً لم يختاروها لكن الخبر الجميل؟ أنك لست مجبراً على الإستمرار في نفس الدائرة, أنت تستطيع أن تشفي جراحك و أن تبني نفسك من جديد على أساس من الرحمة و الوعي و الإختيار. ربما لن تعتذر أمك يوماً, و ربما لن تفهم يوماً ما فعلته بك لكن شفاءك لا يتوقف عليها

إن رغبت في أن تبدأ رحلة التعافي, و أن تعيد وصل نفسك بطفلك الداخلي و تتعلم كيف تبني علاقات صحية و آمنة…… يسعدنا أن نكون جزءاً من هذه الرحلة…...تواصل معنا

و معاً نبني جيل لا يرث الجرح بل يرث الوعي و القوة و الحب

By Dr. Hayfaa Shaheen

psychological counseling and systemic coaching

Susan Forward, Emotional Blackmail: When the People in Your Life Use Fear, Obligation, and Guilt to Manipulate You (1997).
Karyl McBride, Will I Ever Be Good Enough? (2008).
Gibson, L. C. Adult Children of Emotionally Immature Parents (2015).
Golomb, Elan. "Trapped in the Mirror", 1992.
Gibson, Lindsay. "Adult Children of Emotionally Immature Parents", 2015.
Brown, L. W. (2001). Children of the Self-Absorbed: A Grown-Up’s Guide to Getting Over Narcissistic Parents.
Wright, M. O., Crawford, E., & Del Castillo, D. (2009). Childhood emotional maltreatment and later psychological distress among college students. Journal of Emotional Abuse.
Millon, T., Grossman, S., & Meagher, S. (2011). Personality Disorders in Modern Life.





Next
Next

الإنفصال عن النرجسي و كسر التعلق العاطفي